فصل: الحكم الإجماليّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


سِحْر

التّعريف

1 - السّحر لغةً‏:‏ كلّ ما لطف مأخذه ودقّ، ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من البيان لسحراً» وسحره أي خدعه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ‏}‏ أي المخدوعين‏.‏

ويطلق السّحر على أخصّ من ذلك قال الأزهريّ‏:‏ السّحر عمل تُقُرِّبَ به إلى الشّيطان وبمعونة منه، كلّ ذلك الأمر كينونة للسّحر‏.‏ قال‏:‏ وأصل السّحر صرف الشّيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنّ السّاحر لمّا أرى الباطل في صورة الحقّ، وخيّل الشّيء على غير حقيقته، قد سحر الشّيء عن وجهه، أي صرفه‏.‏ ا هـ‏.‏

وروى شمر‏:‏ أنّ العرب إنّما سمّت السّحر سحراً لأنّه يزيل الصّحّة إلى المرض، والبغض إلى الحبّ‏.‏

وقد يسمّى السّحر طبّاً، والمطبوب المسحور، قال أبو عبيدة‏:‏ إنّما قالوا ذلك تفاؤلاً بالسّلامة، وقيل‏:‏ إنّما سمّي السّحر طبّاً، لأنّ الطّبّ بمعنى الحذق، فلوحظ حذق السّاحر فسمّي عمله طبّاً‏.‏

وورد في القرآن العظيم لفظ الجبت، فسّره عمر وابن عبّاس وأبو العالية والشّعبيّ بالسّحر، وقيل‏:‏ الجبت أعمّ من السّحر، فيصدق أيضًا على الكهانة والعرافة والتّنجيم‏.‏

أمّا في الاصطلاح فقد اختلف الفقهاء وغيرهم من العلماء في تعريفه اختلافاً واسعاً، ولعلّ مردّ الاختلاف إلى خفاء طبيعة السّحر وآثاره‏.‏ فاختلفت تعريفاتهم له تبعاً لاختلاف تصوّرهم لحقيقته‏.‏

فمن ذلك ما قال البيضاويّ‏:‏ المراد بالسّحر ما يستعان في تحصيله بالتّقرّب إلى الشّيطان ممّا لا يستقلّ به الإنسان، وذلك لا يحصل إلاّ لمن يناسبه في الشّرارة وخبث النّفس‏.‏

قال‏:‏ وأمّا ما يتعجّب منه كما يفعله أصحاب الحيل والآلات والأدوية، أو يريه صاحب خفّة اليد فغير مذموم، وتسميته سحرًا هو على سبيل التّجوّز لما فيه من الدّقّة، لأنّ السّحر في الأصل لما خفي سببه‏.‏ ا هـ‏.‏

ونقل التّهانويّ عن الفتاوى الحامديّة‏:‏ السّحر نوع يستفاد من العلم بخواصّ الجواهر وبأمور حسابيّة في مطالع النّجوم، فيتّخذ من ذلك هيكلاً على صورة الشّخص المسحور، ويترصّد له وقت مخصوص في المطالع، وتقرن به كلمات يتلفّظ بها من الكفر والفحش المخالف للشّرع، ويتوصّل بها إلى الاستعانة بالشّياطين، ويحصل من مجموع ذلك أحوال غريبة في الشّخص المسحور‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ السّحر شرعاً مزاولة النّفوس الخبيثة لأقوال أو أفعال ينشأ عنها أمور خارقة للعادة‏.‏

وعرّفه الحنابلة بأنّه‏:‏ عقد ورقىً وكلام يتكلّم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الشّعوذة‏:‏

2 - قال في اللّسان‏:‏ الشّعوذة خفّة في اليد، وأخذٌ كالسّحر، يُرِي الشّيء على غير ما عليه أصله في رأي العين، وقالوا‏:‏ رجل مُشَعوِذ ومُشَعْوَذة، وقد يسمّى الشّعبذة‏.‏

ب - النُّشرة‏:‏

3 - النّشرة ضرب من الرّقية والعلاج يعالج به من كان يظنّ أنّ به مسّاً من الجنّ‏.‏

سمّيت نشرةً لأنّه ينشَّر بها ما خامره من الدّاء، أي يكشف ويزال، قال الحسن‏:‏ النّشرة من السّحر‏.‏ وفي الحديث أنّه «سئل صلى الله عليه وسلم عن النّشرة، فقال‏:‏ هي من عمل الشّيطان»‏.‏

ج - العزيمة‏:‏

4 - العزيمة من الرّقى الّتي كانوا يعزمون بها على الجنّ، وجمعها العزائم، يقال‏:‏ عزم الرّاقي‏:‏ كأنّه أقسم على الدّاء، وأصلها فيما ذكره القرافيّ‏:‏ الإقسام والتّعزيم على أسماء معيّنة زعموا أنّها أسماء ملائكة وَكّلهم سليمان بقبائل الجانّ، فإذا أقسم على صاحب الاسم ألزم الجنّ بما يريد‏.‏

د - الرّقية‏:‏

5 - الرّقية وجمعها الرّقى، وهي ألفاظ خاصّة يحدث عند قولها الشّفاء من المرض، إذا كانت من الأدعية الّتي يتعوّذ بها من الآفات من الصّرع والحمّى، وفي الحديث «أعرضوا عليّ رقاكم» وفي حديث آخر «لا رقية إلاّ من عين أو حمة»‏.‏

ومن الرّقى ما ليس بمشروع كرقى الجاهليّة، وأهل الهند يزعمون أنّهم يستشفون بها من الأسقام والأسباب المهلكة‏.‏

قال القرافيّ‏:‏ الرّقية لما يطلب به النّفع، أمّا ما يطلب به الضّرر فلا يسمّى رقيةً بل هو سحر‏.‏ وانظر ‏(‏تعويذة‏)‏‏.‏

هـ - الطّلسم‏:‏

6 - الطّلسمات أسماء خاصّة كانوا يزعمون أنّ لها تعلّقاً بالكواكب، تجعل في أجسام من المعادن أو غيرها، ويزعمون أنّها تحدث آثاراً خاصّةً‏.‏

و - الأوفاق‏:‏

7 - الأوفاق هي أعداد توضع في أشكال هندسيّة على شكل مخصوص، كانوا يزعمون أنّ من عمله في ورق وحمله يؤدّي ذلك إلى تيسير الولادة، أو نصر جيش على جيش، أو إخراج مسجون من سجن ونحو ذلك‏.‏

ز - التّنجيم‏:‏

8 - التّنجيم لغةً‏:‏ النّظر في النّجوم، اصطلاحاً‏:‏ ما يستدلّ بالتّشكّلات الفلكيّة على الحوادث الأرضيّة كما يزعمون‏.‏

حقيقة السّحر

9 - اختلف العلماء في أنّ السّحر هل له حقيقة ووجود وتأثير حقيقيّ في قلب الأعيان، أم هو مجرّد تخييل‏.‏

فذهب المعتزلة وأبو بكر الرّازيّ الحنفيّ المعروف بالجصّاص، وأبو جعفر الإستراباذي والبغويّ من الشّافعيّة، إلى إنكار جميع أنواع السّحر وأنّه في الحقيقة تخييل من السّاحر على من يراه، وإيهام له بما هو خلاف الواقع، وأنّ السّحر لا يضرّ إلاّ أن يستعمل السّاحر سمّاً أو دخاناً يصل إلى بدن المسحور فيؤذيه، ونقل مثل هذا عن الحنفيّة، وأنّ السّاحر لا يستطيع بسحره قلب حقائق الأشياء، فلا يمكنه قلب العصا حيّةً، ولا قلب الإنسان حماراً‏.‏ قال الجصّاص‏:‏ السّحر متى أطلق فهو اسم لكلّ أمر مموّه باطل لا حقيقة له ولا ثبات، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ‏}‏ يعني موّهوا عليهم حتّى ظنّوا أنّ حبالهم وعصيّهم تسعى، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى‏}‏ فأخبر أنّ ما ظنّوه سعياً منها لم يكن سعياً وإنّما كان تخييلاً، وقد قيل‏:‏ إنّها كانت عصيّاً مجوّفةً مملوءةً زئبقاً، وكذلك الحبال كانت معمولةً من أدم محشوّةً زئبقاً، فأخبر اللّه أنّ ذلك كان مموّهاً على غير حقيقته‏.‏

وذهب جمهور أهل السّنّة إلى أنّ السّحر قسمان‏:‏

10 - قسم هو حيل ومخرقة وتهويل وشعوذة، وإيهام، ليس له حقائق، أو له حقائق لكن لطف مأخذها، ولو كشف أمرها لعلم أنّها أفعال معتادة يمكن لمن عرف وجهها أن يفعل مثلها، ومن جملتها ما ينبني على معرفة خواصّ الموادّ والحيل الهندسيّة ونحوها، ولا يمنعه ذلك عن أن يكون داخلاً في مسمّى السّحر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ وهذا ما لم يكن خفاء وجهه ضعيفاً فلا يسمّى سحراً اصطلاحاً، وقد يسمّى سحرًا لغةً، كما قالوا‏:‏ ‏(‏سحرت الصّبيّ‏)‏ بمعنى خدعته‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ ما له حقيقة ووجود وتأثير في الأبدان‏.‏ فقد ذهبوا إلى إثبات هذا القسم من حيث الجملة‏.‏ وهو مذهب الحنفيّة على ما نقله ابن الهمام، والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

واستدلّ القائلون بتأثير السّحر وإحداثه المرض والضّرر ونحو ذلك بأدلّة‏:‏ منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ‏}‏ والنّفّاثات في العقد‏:‏ هنّ السّواحر من النّساء‏.‏ فلمّا أمر بالاستعاذة من شرّهنّ علم أنّ لهنّ تأثيراً وضرراً‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏‏.‏

ومنها ما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «سُحِر حتّى أنّه ليخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما يفعله» ولذلك قصّة معروفة في الصّحيح، وفيها أنّ الّذي سحره جعل سحره في مشط ومشاطة تحت راعوفة في بئر ذروان، وأنّ اللّه أطلعه على ذلك فاستخرجها، وأنزلت عليه المعوّذتان فما قرأ على عقدة إلاّ انحلّت وأنّ اللّه تعالى شفاه بذلك‏.‏

الحكم التّكليفيّ

11 - عمل السّحر محرّم من حيث الجملة، وقد نقل النّوويّ الإجماع على ذلك، وهو كبيرة من الكبائر، وأدلّة تحريمه كثيرة منها‏:‏

أ - قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏‏.‏

ب - قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ فجعله من تعليم الشّياطين وقال في آخر الآية‏:‏ ‏{‏وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏فأثبت فيه ضرراً بلا نفع‏.‏

ج - قوله تعالى حكايةً عن سحرة فرعون‏:‏ ‏{‏إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ فأخبر أنّهم رغبوا إلى اللّه في أن يغفر لهم السّحر، وذلك يدلّ على أنّه ذنب‏.‏

د - قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجتنبوا السّبع الموبقات‏.‏‏.‏‏.‏ الشّرك باللّه، والسّحر‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ الحديث‏.‏

وفرّق بعض الفقهاء بين ما كان من السّحر تمويهاً وحيلةً، وبين غيره، فقالوا‏:‏ إنّ الأوّل مباح، أي لأنّه نوع من اللّهو فيباح ما لم يتوصّل به إلى محرّم كالإضرار بالنّاس وإرهابهم‏.‏ قال البيضاويّ‏:‏ أمّا ما يتعجّب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية، أو يريه صاحب خفّة اليد فغير مذموم، وتسميته سحراً على التّجوّز، أو لما فيه من الدّقّة‏.‏

كفر السّاحر بفعل السّحر

12 - للفقهاء اتّجاهات في تكفير السّاحر على النّحو التّالي‏:‏

ذهب الحنفيّة وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّ السّاحر يكفر بفعله سواء اعتقد تحريمه أم لا ثمّ قال الحنابلة‏:‏ أمّا الّذي يسحر بأدوية وتدخين وسقي شيء فليس كافراً، وكذلك الّذي يعزم على الجنّ ويزعم أنّه يجمعها فتطيعه‏.‏

وذهب المالكيّة إلى تكفير السّاحر بفعل السّحر إن كان سحره مشتملاً على كفر، أو كان سحره ممّا يفرّق بين الزّوجين وثبت ذلك ببيّنة‏.‏

وأضاف ابن العربيّ إلى حالة التّفريق بين الزّوجين حالة تحبيب الرّجل إلى المرأة وهو المسمّى ‏(‏التّولة‏)‏‏.‏

وذهب الشّافعيّة وهو ما اختاره ابن الهمام من الحنفيّة إلى أنّ العمل بالسّحر حرام وليس بكفر من حيث الأصل، وأنّ السّاحر لا يكفر إلاّ في حالتين هما‏:‏ أن يعتقد ما هو كفر، أو أن يعتقد إباحة السّحر‏.‏

وأضاف ابن الهمام حالةً ثالثةً هي ما إذا اعتقد أنّ الشّياطين يفعلون له ما يشاء‏.‏

حكم تعلّم السّحر وتعليمه

13 - اختلف الفقهاء في حكم تعلّم السّحر دون العمل به‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ تعلّم السّحر حرام وكفر، ومن الحنفيّة من استثنى أحوالاً‏.‏ فنقل ابن عابدين عن ذخيرة النّاظر أنّ تعلّمه لردّ فعل ساحر أهل الحرب فرض، وأنّ تعلّمه ليوفّق بين زوجين جائز، وردّه بعض الحنفيّة بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ الرّقى والتّمائم والتّولة شرك» والتّولة شيء كانوا يصنعونه يزعمون أنّه يحبّب المرأة إلى زوجها‏.‏

واستدلّ الطّرطوشيّ من المالكيّة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ‏}‏ أي بتعلّمه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ ولأنّه لا يتأتّى إلاّ ممّن يعتقد أنّه قادر به على تغيير الأجسام، والجزم بذلك كفر‏.‏

قال القرافيّ‏:‏ أي يحكم بكفره ظاهراً، ولأنّ تعليمه لا يتأتّى إلاّ بمباشرته، كأن يتقرّب إلى الكوكب ويخضع له، ويطلب منه قهر السّلطان‏.‏

ثمّ فرّق القرافيّ بين من يتعلّم السّحر بمجرّد معرفته لما يصنع السّحرة كأن يقرؤه في كتاب، وبين أن يباشر فعل السّحر ليتعلّمه فلا يكفر بالنّوع الأوّل، ويكفر بالثّاني حيث كان الفعل مكفّراً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ تعليمه حرام، إلاّ إن كان لتحصيل نفع، أو لدفع ضرر، أو للوقوف على حقيقته‏.‏

وقال الفخر الرّازيّ‏:‏ العلم بالسّحر ليس بقبيح ولا محظور، قال‏:‏ وقد اتّفق المحقّقون على ذلك ‏;‏ لأنّ العلم لذاته شريف، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ولأنّ السّحر لو لم يكن يعلّم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب‏.‏ قال‏:‏ فهذا يقتضي أن يكون العلم بالسّحر واجباً فكيف يكون قبيحاً أو حراماً‏.‏

النّشرة، أو حلّ السّحر عن المسحور

14 - يحلّ السّحر عن المسحور بطريقتين‏:‏

الأولى‏:‏ أن يحلّ بالرّقى المباحة والتّعوّذ المشروع، كالفاتحة والمعوّذتين والاستعاذات المأثورة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو غير المأثورة ولكنّها من جنس المأثور، فهذا النّوع جائز إجماعاً‏.‏ وقد ورد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سحر، استخرج المشط والمشاطة اللّتين سحر بهما، ثمّ كان يقرأ بالمعوّذتين، فشفاه اللّه تعالى»‏.‏

الثّانية‏:‏ أن يحلّ السّحر بسحر مثله‏.‏ وهذا النّوع اختلف فيه على قولين‏:‏

الأوّل - أنّه حرام لا يجوز، لأنّه سحر وتنطبق عليه أدلّة تحريم السّحر المتقدّم بيانها‏.‏ وهذا منقول عن ابن مسعود والحسن وابن سيرين وإليه ذهب ابن القيّم‏.‏ وتوقّف فيه أحمد‏.‏ وروي عن الحسن‏:‏ لا يحلّ السّحر إلاّ ساحر، وروي عن محمّد بن سيرين أنّه سئل عن امرأة يعذّبها السّحرة، فقال رجل‏:‏ أخطّ خطّاً عليها وأغرز السّكّين عند مجمع الخطّ وأقرأ القرآن‏.‏ فقال محمّد‏:‏ ما أعلم بقراءة القرآن بأساً، ولا أدري ما الخطّ والسّكّين‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ حلّ السّحر بسحر مثله من عمل الشّيطان، فيتقرّب النّاشر والمنتشر إلى الشّيطان بما يحبّ فيبطل العمل عن المسحور‏.‏

القول الثّاني - أنّ حلّ السّحر بسحر لا كفر فيه ولا معصية جائز، فقد نقل البخاريّ عن قتادة‏:‏ قلت لسعيد بن المسيّب‏:‏ رجل به طبّ، أو يؤخذ عن امرأته أيحلّ عنه، أو ينشر ‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس، إنّما يريدون به الإصلاح، فإنّ ما ينفع لم ينه عنه‏.‏

والقولان أيضاً عند المالكيّة والحنابلة، قال الرّحيبانيّ‏:‏ يجوز حلّ السّحر بسحر لأجل الضّرورة، وهو المذهب، وقال في المغني‏:‏ توقّف أحمد في الحلّ، وهو إلى الجواز أميل‏.‏

عقوبة السّاحر

15 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ السّاحر يقتل في حالين‏:‏ الأوّل أن يكون سحره كفراً، والثّاني إذا عرفت مزاولته للسّحر بما فيه إضرار وإفساد ولو بغير كفر‏.‏

ونقل ابن عابدين أنّ أبا حنيفة قال‏:‏ السّاحر إذا أقرّ بسحره أو ثبت عليه بالبيّنة يقتل ولا يستتاب، والمسلم والذّمّيّ في هذا سواء، وقيل‏:‏ لا يقتل إن كان ذمّيّاً‏.‏

ويفهم من كلام ابن الهمام أنّ قتله إنّما هو على سبيل التّعزير، لا بمجرّد فعله إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره، وقال ابن عابدين‏:‏ يجب قتل السّاحر ولا يستتاب، وذلك لسعيه في الأرض بالفساد لا بمجرّد عمله إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره، لكن إن جاء تائباً قبل أن يؤخذ قبلت‏.‏

وذهب المالكيّة إلى قتل السّاحر، لكن قالوا‏:‏ إنّما يقتل إذا حكم بكفره، وثبت عليه بالبيّنة لدى الإمام، فإن كان متجاهراً به قتل وماله فيء إلاّ أن يتوب، وإن كان يخفيه فهو كالزّنديق يقتل ولا يستتاب، واستثنى المالكيّة - أيضاً - السّاحر الذّمّيّ، فقالوا‏:‏ لا يقتل، بل يؤدّب‏.‏ لكن قالوا‏:‏ إن أدخل السّاحر الذّمّيّ ضرراً على مسلم فيتحتّم قتله، ولا تقبل منه توبة غير الإسلام، نقله الباجيّ عن مالك‏.‏

لكن قال الزّرقانيّ‏:‏ الّذي ينبغي اعتماده أنّ ذلك يوجب انتقاض عهده، فيخيّر الإمام فيه‏.‏

أمّا إن أدخل السّاحر الذّمّيّ ضرراً على أحد من أهل ملّته فإنّه يؤدّب ما لم يقتله، فإن قتله قتل به‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ إن كان سحر السّاحر ليس من قبيل ما يكفر به، فهو فسق لا يقتل به ما لم يقتل أحداً ويثبت تعمّده للقتل به بإقراره‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ السّاحر يقتل حدّاً ولو لم يقتل بسحره أحداً، لكن لا يقتل إلاّ بشرطين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يكون سحره ممّا يحكم بكونه كفراً مثل فعل لبيد بن الأعصم، أو يعتقد إباحة السّحر، بخلاف ما لا يحكم بكونه كفراً، كمن يزعم أنّه يجمع الجنّ فتطيعه، أو يسحر بأدوية وتدخين، وسقي شيء لا يضرّ‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يكون مسلماً، فإن كان ذمّيّاً لم يقتل، لأنّه أُقِرَّ على شركه وهو أعظم من السّحر، ولأنّ «لبيد بن الأعصم اليهوديّ سحر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يقتله»، قالوا‏:‏ والأخبار الّتي وردت بقتل السّاحر إنّما وردت في ساحر المسلمين لأنّه يكفر بسحره‏.‏ والذّمّيّ كافر أصليّ فلا يقتل به، لكن إن قتل بسحر يَقْتُل غالباً، قُتِل قصاصاً‏.‏

وشرط آخر أضافه صاحب المغني‏:‏ وهو أن يعمل بالسّحر، إذ لا يقتل بمجرّد العلم به‏.‏

ثمّ قال بعضهم‏:‏ ويعاقب بالقتل أيضاً من يعتقد حلّ السّحر من المسلمين، فيقتل كفراً، لأنّه يكون بذلك قد أنكر مجمعاً عليه معلوماً من الدّين بالضّرورة‏.‏

واحتجّوا لقتل السّاحر بما روى جندب مرفوعاً «حدّ السّاحر ضربة بالسّيف»‏.‏

وبما ورد عن بجالة بن عبدة أنّ عمر بن الخطّاب كتب‏:‏ أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة‏.‏

وبأنّ حفصة أمرت بقتل ساحرة سحرتها‏.‏

وأنّ معاوية كتب إلى عامله قبل موته بسنة‏:‏ أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة، وقتل جندب بن كعب ساحراً كان يسحر بين يدي الوليد بن أبي عقبة‏.‏

حكم السّاحر إذا قتل بسحره

16 - ذهب الجمهور خلافًا للحنفيّة إلى أنّ القتل بالسّحر يمكن أن يكون عمداً، وفيه القصاص‏.‏ ويثبت ذلك عند المالكيّة بالبيّنة أو الإقرار‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ السّاحر إن قتل بسحره من هو مكافئ له ففيه القصاص إن تعمّد قتله به، وذلك بأن يثبت ذلك بإقرار السّاحر به حقيقةً أو حكماً، كقوله‏:‏ قتلته بسحري، أو قوله‏:‏ قتلته بنوع كذا، ويشهد عدلان يعرفان ذلك، وقد كانا تابا، بأنّ ذلك النّوع يقتل غالباً‏.‏ فإن كان لا يقتل غالباً فيكون شبه عمد‏.‏ فإن قال‏:‏ أخطأت من اسم غيره إلى اسمه فخطأ‏.‏

ولا يثبت القتل العمد بالسّحر بالبيّنة عند الشّافعيّة لتعذّر مشاهدة الشّهود قصد السّاحر وتأثير سحره‏.‏

قال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ يستوفى القصاص ممّن قتل بسحره بالسّيف ولا يستوفى بسحر مثله، أي لأنّ السّحر محرّم، ولعدم انضباطه‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّ الذّمّيّ إن قتل بسحره أحداً من أهل ملّته فإنّه يقتل به‏.‏

تعزير السّاحر الّذي لم يستحقّ القتل

17 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ السّاحر غير المستحقّ للقتل، بأن لم يكن سحره كفراً لم يقتل بسحره أحداً، إذا عمل بسحره يعزّر تعزيراً بليغاً لينكفّ هو ومن يعمل مثل عمله، ولكن بحيث لا يبلغ بتعزيره القتل على الصّحيح من المذهب عند الحنابلة لارتكابه معصيةً‏.‏ وفي قول للإمام‏:‏ تعزيره بالقتل‏.‏

الإجارة على فعل السّحر أو تعليمه

18 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستئجار لعمل السّحر لا يحلّ إن كان ذلك النّوع من السّحر حراماً - على الخلاف المتقدّم بينهم في حكمه - ولا تصحّ الإجارة، ولا تحلّ إعطاء الأجرة، ولا يحلّ لآخذها أخذها، واختلفوا في بعض التّفصيلات‏:‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ من استأجر ساحراً ليعمل له عملاً هو سحر فالإجارة حرام ولا تصحّ، ولا يقتل المستأجر لأنّ فعله ذلك ليس بسحر، حتّى لو قتل السّاحر بسحره ذاك أحداً، ويؤدّب المستأجر أدباً شديداً، واستثنى الحنفيّة والمالكيّة من يستأجر لحلّ السّحر عن المسحور، فأجازوا ذلك - أي على القول بجواز حلّ السّحر - لأنّه من باب العلاج، وكذا أجاز الشّافعيّة الإجارة على إزالة السّحر نحو ما يحصل للزّوج من الانحلال المسمّى عند العامّة بالرّبط‏.‏ قالوا‏:‏ والأجرة على من التزم العوض، سواء كان هو الرّجل نفسه أو زوجته أو أحداً من أهلها أو أجنبيّاً‏.‏

وصرّح الشّافعيّة أيضًا بأنّه لا يصحّ الاستئجار لتعليم السّحر ولا تستحقّ على تعليم السّحر أجرة، ولا يصحّ بيع كتب السّحر ويجب إتلافها‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا تصحّ الإجارة على السّحر إن كان محرّماً، أمّا إذا كان مباحاً فلا مانع من الاستئجار عليه، كتعليم رقىً عربيّةً ليحلّ بها السّحر‏.‏ ولا تصحّ الوصيّة بكتب سحر لأنّها إعانة على المعصية، ولا ضمان على من أتلف آلة سحر‏.‏

سحور

التّعريف

1 - السّحور لغةً‏:‏ طعام السّحر وشرابه، قال ابن الأثير‏:‏ هو بالفتح اسم ما يتسحّر به وقت السّحر من طعام وشراب، وبالضّمّ المصدر والفعل نفسه، أكثر ما روي بالفتح، وقيل‏:‏ إنّ الصّواب بالضّمّ، لأنّه بالفتح الطّعام والبركة، والأجر والثّواب في الفعل لا في الطّعام‏.‏ والسَّحَر بفتحتين‏:‏ آخر اللّيل قبيل الصّبح، الجمع أسحار، وقيل‏:‏ هو من ثلث اللّيل الآخر إلى طلوع الفجر‏.‏ ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ للسّحور عن ذلك‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - السّحور سنّة للصّائم، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على كونه مندوباً، لما روى أنس رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ تسحّروا فإنّ في السّحور بركةً»‏.‏

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر»‏.‏

ولأنّه يستعان به على صيام النّهار، وإليه أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّدب إلى السّحور فقال‏:‏ «استعينوا بطعام السّحر على صيام النّهار وبالقيلولة على قيام اللّيل»‏.‏

وكلّ ما حصل من أكل أو شرب حصل به فضيلة السّحور لحديث عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر» وعن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «السّحور أكله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماء فإنّ اللّه وملائكته يصلّون على المتسحّرين» وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نعم سحور المؤمن التّمر»‏.‏

وقت السّحور

3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ وقت السّحور ما بين نصف اللّيل الأخير إلى طلوع الفجر، وقال بعض الحنفيّة والشّافعيّة‏:‏ هو ما بين السّدس الأخير وطلوع الفجر‏.‏

ويسنّ تأخير السّحور عند جمهور الفقهاء ما لم يخش طلوع الفجر الثّاني لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ والمراد بالفجر في الآية الفجر الثّاني، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يمنعنّكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل ولكنّ الفجر المستطير في الأفق» ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تزال أمّتي بخير ما أخّروا السّحور وعجّلوا الفطر» ولأنّ المقصود بالسّحور التّقوّي على الصّوم، وما كان أقرب إلى الفجر كان أعون على الصّوم‏.‏

ونقل الحطّاب عن ابن شاس أنّ تأخير السّحور مستحبّ‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏صوم‏)‏‏.‏

تأخّر السّحور إلى وقت الشّكّ

4 - قال الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن‏:‏ إنّه لا يكره الأكل والشّرب مع الشّكّ في طلوع الفجر الثّاني، قال أحمد في رواية أبي داود‏:‏ إذا شكّ في طلوع الفجر يأكل حتّى يستيقن طلوعه، لأنّ الأصل بقاء اللّيل، قال الآجرّيّ من الحنابلة وغيره‏:‏ لو قال لعالمين‏:‏ ارقبا الفجر، فقال أحدهما‏:‏ طلع، وقال الآخر‏:‏ لم يطلع، أكل حتّى يتّفقا على أنّه طلع‏.‏ وقاله جمع من الصّحابة وغيرهم‏.‏

ويكره عند الحنابلة الجماع مع الشّكّ في طلوع الفجر الثّاني، لما فيه من التّعرّض لوجوب الكفّارة، ولأنّه ليس ممّا يتقوّى به‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو شكّ في طلوع الفجر فالمستحبّ له أن لا يأكل، لأنّه يحتمل أنّ الفجر قد طلع، فيكون الأكل إفسادًا للصّوم، فيتحرّز عنه، قال صاحب البدائع‏:‏ والأصل فيه ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهة‏.‏‏.‏‏.‏»

كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ولو أكل وهو شاكّ لا يحكم عليه بوجوب القضاء، لأنّ فساد الصّوم مشكوك فيه لوقوع الشّكّ في طلوع الفجر، مع أنّ الأصل هو بقاء اللّيل، فلا يثبت النّهار بالشّكّ‏.‏

وفي الفتاوى الهنديّة‏:‏ إن كان أكبر رأيه أنّه تسحّر والفجر طالع فعليه قضاؤه عملاً بغالب الرّأي وفيه الاحتياط، وعلى ظاهر الرّواية لا قضاء عليه، هذا إذا لم يظهر له شيء، ولو ظهر أنّه أكل والفجر طالع يجب عليه القضاء ولا كفّارة عليه‏.‏

5- وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكيّة‏:‏ إنّ الأكل والشّرب مع الشّكّ في طلوع الفجر الثّاني مكروه‏.‏ ونقل الكاسانيّ عن هشام عن أبي يوسف أنّه يكره، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنّه إذا شكّ فلا يأكل، وإن أكل فقد أساء، لما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمىً، ألا إنّ حمى اللّه في أرضه محارمه» والّذي يأكل مع الشّكّ في طلوع الفجر يحوم حول الحمى فيوشك أن يقع فيه، فكان بالأكل معرّضاً صومه للفساد فيكره ذلك‏.‏

وذهب أكثر المالكيّة إلى أنّ من أكل مع الشّكّ في الفجر فعليه القضاء مع الحرمة على المشهور، إلاّ أن يتبيّن أنّ الأكل كان قبل الفجر، وإن كان الأصل بقاء اللّيل، وهذا بالنّسبة لصوم الفرض، وأمّا في النّفل فلا قضاء فيه اتّفاقاً، لأنّ أكله ليس من العمد الحرام، ولا كفّارة فيمن أكل شاكّاً في الفجر اتّفاقاً، ومن أكل معتقداً بقاء اللّيل ثمّ طرأ الشّكّ فعليه القضاء بلا حرمة، ولو طلع الفجر وهو متلبّس بالفطر فالواجب عليه إلقاء ما في فمه‏.‏ وانظر للتّفصيل مصطلح‏:‏ ‏(‏صوم‏)‏‏.‏

السّحور بالتّحرّي وغيره

6 - لو أراد أن يتسحّر فله ذلك إذا كان بحال لا يمكنه مطالعة الفجر بنفسه أو بغيره، وذكر شمس الأئمّة الحلوانيّ أنّ من تسحّر بأكبر الرّأي لا بأس به، إذا كان الرّجل ممّن لا يخفى عليه مثل ذلك، وإن كان ممّن يخفى عليه فسبيله أن يدع الأكل، وإن أراد أن يتسحّر بصوت الطّبل السّحريّ فإن كثر ذلك الصّوت من كلّ جانب وفي جميع أطراف البلدة فلا بأس به، وإن كان يسمع صوتاً واحداً فإن علم عدالته يعتمد عليه، وإن لم يعرف يحتاط ولا يأكل، وإن أراد أن يعتمد بصياح الدّيك فقد أنكر ذلك بعض الحنفيّة، وقال بعضهم‏:‏ لا بأس به إذا كان قد جرّبه مراراً، وظهر له أنّه يصيب الوقت‏.‏

سخرة

التّعريف

1 - السّخرة لغةً‏:‏ ما سخّرته من دابّة أو رجل بلا أجر ولا ثمن، ويقال‏:‏ للمفرد والجمع‏.‏ يقال سخّره سخراً أو سخريّاً‏:‏ أي كلّفه ما لا يريد وقهره، والسّخرة أيضاً‏:‏ من يسخر منه النّاس‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء للسّخرة عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإجارة‏:‏

2 - الإجارة عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض‏.‏

والأجرة ما يلتزم به المستأجر قبل المؤجّر عوضاً عن المنفعة الّتي يتملّكها‏.‏

وانظر مصطلح ‏(‏إجارة‏)‏ لبيان ما يتعلّق بها وبالأجرة من الأحكام‏.‏

ب - العمالة‏:‏

3 - العُمالة - بضمّ العين - هي أجرة العامل، يقال استعملته‏:‏ أي جعلته عاملاً‏.‏

ج - الجعالة‏:‏

4 - الجعالة التزام عوض معلوم على عمل معلوم أو مجهول يعسر ضبطه‏.‏

وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏جعالة‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ

5 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز تسخير العامل دون أجر، ولا يجوز إجباره أو إكراهه على قبول عمل بهذه الصّفة‏.‏ واعتبره الفقهاء من التّعدّي الموجب للضّمان‏.‏

فمن قهر عاملاً وسخّره في عمل ضمن أجرته لاستيفائه منافعه المتقوّمة، لأنّ منفعة العامل مال يجوز أخذ العوض عنه فضمنت بالتّعدّي، والأجرة في مقابل العمل من مقوّمات عقد الإجارة، ومعلوميّتها شرط في صحّة العقد، فإن خلا منها، أو فسد العقد، أو سمّى ما لا يصحّ أجرةً وجب الرّجوع إلى أجر المثل‏.‏ هذا في الجملة وتفصيله في ‏(‏إجارة‏)‏‏.‏

6- والأصل أنّ الانتفاع بعمل الإنسان أن يكون برضاه، سواء كان بعوض كالإجارة أو بغير عوض كأن يتطوّع بمعونة شخص أو خدمته، وما ينطبق على الأفراد فيما بينهم ينطبق على الدّولة فيمن تستعملهم من عمّال، إلاّ أنّ للإمام أن يسخّر بعض النّاس في أحوال خاصّة تقتضيها مصلحة عامّة المسلمين، ولا يجوز تسخيرهم بدون أجر، وتلزم الدّولة بإجراء أجورهم في مقابل ما يعملون من أعمال‏.‏

7- ويشهد لهذا الأصل جملة من المسائل الّتي نصّ عليها الفقهاء‏:‏

منها‏:‏ أنّ للعامل في الدّولة أجراً يجريه له وليّ الأمر، ولا يخلو هذا الأجر من ثلاثة أحوال‏:‏ الحال الأوّل‏:‏ أن يسمّي الوالي للعامل أجراً معلوماً‏:‏ يستحقّ العامل الأجر إذا وفّى العمالة حقّها، فإن قصّر روعي تقصيره، فإن كان التّقصير في ترك بعض العمل لم يستحقّ جاري ما قابله، وإن كان خيانةً مع استيفاء العمل استكمل جاريه واسترجع منه ما خان فيه، وإن زاد في العمل روعيت الزّيادة في الأجر‏.‏

الحال الثّاني‏:‏ أن يسمّي للعامل أجرًا مجهولاً‏:‏ فيستحقّ العامل أجر مثله فيما عمل، فإن كان جاري العمل مقدّراً في الدّيوان وعمل به جماعة من العمّال صار ذلك القدر هو جاري المثل‏.‏

الحال الثّالث‏:‏ أن لا يسمّي له أجرًا معلومًا ولا مجهولاً‏.‏

فذهب الشّافعيّ إلى أنّه لا جاري له على عمله، ويكون متطوّعاً به، لخلوّ عمله من عوض‏.‏ وذهب المزنيّ إلى أنّ له جاري مثله لاستيفاء عمله عن إذنه‏.‏

وذهب أبو العبّاس بن سريج إلى أنّه إن كان مشهوراً بأخذ الجاري على عمله فله جاري مثله، وإن لم يشتهر فلا جاري له‏.‏

وذهب أبو إسحاق المروزيّ إلى أنّه إن دعي إلى العمل في الابتداء أو أمر به فله جاري مثله فإن ابتدأ بالطّلب فأذن له في العمل فلا جاري له‏.‏

ونظير هذا الخلاف ما تقدّم في مصطلح ‏(‏جعالة‏)‏ في مسألة الخلاف في استحقاق العامل الجعل في حالة الإذن له بالعمل أو عدم الإذن حيث استوفيت المذاهب في المسألة‏.‏

فلتراجع في مصطلح‏:‏ ‏(‏جعالة ف /31 - 34‏)‏

8 - ومن المسائل المتعلّقة باستعمال الدّولة للعمّال بأجر، ما قال ابن القيّم‏:‏ إذا احتاج النّاس إلى صناعة من الصّناعات كالفلاحة والنّساجة والبناء فلوليّ الأمر أن يلزمهم بالعمل بأجرة مثلهم مراعاةً لمصالح النّاس حيث صارت هذه الأعمال مستحقّةً عليهم ولا يمكّنهم من مطالبة النّاس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكّن النّاس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقّهم‏.‏ كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم، وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها‏:‏ ألزم الجند بألاّ يظلموا الفلّاح، كما يلزم الفلّاح بأن يفلّح‏.‏

9- ومن المسائل كذلك‏:‏ أنّ أوجه اختصاص والي المظالم أن ينظر في تظلّم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخّرها عنهم، أو إجحاف النّظر بهم فيردّ إليهم أرزاقهم ويضبط هذا في ديوانه‏.‏

والدّليل من السّنّة على وجوب وفاء الدّولة بأجور عمّالها حديث بريدة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول»‏.‏ وفي حديث عبد اللّه بن السّعديّ قال‏:‏ «استعملني عمر على الصّدقة فلمّا فرغت منها وأدّيتها إليه أمر لي بعمالة فقلت‏:‏ إنّما عملت للّه وأجري على اللّه، فقال‏:‏ خذ ما أعطيت فإنّي عملت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعملني»‏.‏

وعملني‏:‏ أي أعطاني أجرة عملي‏.‏

وجاء في رواية البخاريّ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خذه فتموّله وتصدّق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وإلاّ فلا تتبعه نفسك»‏.‏

سخرية

انظر‏:‏ قذف، سبّ‏.‏

سدّ الذّرائع

التّعريف

1 - السّدّ في اللّغة‏:‏ إغلاق - الخلل‏.‏ والذّريعة‏:‏ الوسيلة إلى الشّيء يقال‏:‏ تذرّع فلان بذريعة أي توسّل بها إلى مقصده، والجمع ذرائع‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هي الأشياء الّتي ظاهرها الإباحة ويتوصّل بها إلى فعل محظور‏.‏

ومعنى سدّ الذّريعة‏:‏ حسم مادّة وسائل الفساد دفعاً لها إذا كان الفعل السّالم من المفسدة وسيلةً إلى مفسدة‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - اختلف العلماء في حكم سدّ الذّرائع واعتبارها من أدلّة الفقه‏:‏

فذهب المالكيّة، والحنابلة إلى أنّها من أدلّة الفقه‏.‏ واستدلّوا بما يأتي‏:‏

أ - قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏، قالوا‏:‏ نهى تبارك وتعالى عن سبّ آلهة الكفّار لئلاّ يكون ذلك ذريعةً إلى سبّ اللّه تعالى، ونهى اللّه سبحانه عن كلمة ‏(‏راعنا‏)‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا‏}‏ لئلاّ يكون ذلك ذريعةً لليهود إلى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّ كلمة

‏"‏ راعنا ‏"‏ في لغتهم سبّ للمخاطب‏.‏

ب - قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشبّهات كان كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه‏.‏ ألا وإنّ لكلّ ملك حمًى، ألا وإنّ حمى اللّه في أرضه محارمه»‏.‏

وقال ابن رشد‏:‏ إنّ أبواب الذّرائع في الكتاب والسّنّة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها‏.‏

ج - إنّ إباحة الوسائل إلى الشّيء المحرّم المفضية إليه نقض للتّحريم، وإغراء للنّفوس به، وحكمة الشّارع وعلمه يأبى ذلك كلّ الإباء، بل سياسة ملوك الدّنيا تأبى ذلك، فإنّ أحدهم لو منع جنده أو رعيّته من شيء، ثمّ أباح لهم الطّرق والوسائل إليه، لعدّ متناقضاً، ولحصل من جنده ورعيّته خلاف مقصوده‏.‏

وكذلك الأطبّاء إذا أرادوا حسم الدّاء منعوا صاحبه من الطّرق والذّرائع الموصّلة إليه، وإلاّ فسد عليهم ما يرومون إصلاحه‏.‏

د - استقراء موارد التّحريم في الكتاب والسّنّة يظهر أنّ المحرّمات منها ما هو محرّم تحريم المقاصد، كتحريم الشّرك والزّنى وشرب الخمر والقتل العدوان، ومنها ما هو تحريم للوسائل والذّرائع الموصّلة لذلك والمسهّلة له‏.‏

استقرى ذلك ابن القيّم فذكر لتحريم الذّرائع تسعةً وتسعين مثالاً من الكتاب والسّنّة‏.‏

فمن سدّ الذّرائع إلى الزّنى‏:‏ تحريم النّظر المقصود إلى المرأة، وتحريم الخلوة بها، وتحريم إظهارها للزّينة الخفيّة، وتحريم سفرها وحدها سفراً بعيداً ولو لحجّ أو عمرة على خلاف وتفصيل في ذلك، وتحريم النّظر إلى العورات، ووجوب الاستئذان عند الدّخول إلى البيوت، وكثير من الأحكام الواردة في الكتاب والسّنّة ممّا يتعلّق بذلك‏.‏

ومن سدّ الذّرائع إلى شرب المسكر‏:‏ تحريم القليل منه ولو قطرةً، كما في الحديث «لو رخّصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه»‏.‏

والنّهي عن الخليطين، والنّهي عن شرب العصير بعد ثلاث، والنّهي عن الانتباذ في بعض الأوعية الّتي يسرع التّخمّر إلى ما ينتبذ فيها‏.‏

ومن سدّ الذّرائع إلى القتل‏:‏ النّهي عن بيع السّلاح في الفتنة، والنّهي عن تعاطي السّيف مسلولاً، وإيجاب القصاص درءاً للتّهاون بالقتل،لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏‏.‏ وكثير من منهيّات الصّلاة ومكروهاتها مرجعها إلى هذا الأصل، كالنّهي عن الصّلاة عند شروق الشّمس وعند زوالها وعند غروبها، وكراهة الصّلاة إلى الصّورة، أو النّار، أو وجه إنسان‏.‏

وكالنّهي عن البيع بعد نداء الجمعة، لأنّ البيع وسيلة إلى التّخلّف عن الجمعة أو فوات بعضها‏.‏ وفي فسخ البيع إن وقع في وقت النّهي خلاف‏.‏

3 - وأنكر الشّافعيّة والحنفيّة ذلك‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ سدّ الذّرائع ليس من أدلّة الفقه، لأنّ الذّرائع هي الوسائل، والوسائل مضطربة اضطراباً شديداً، فقد تكون حراماً، وقد تكون واجبةً، وقد تكون مكروهةً، أو مندوبةً، أو مباحةً‏.‏

وتختلف مع مقاصدها حسب قوّة المصالح والمفاسد وضعفها، وخفاء الوسيلة، وظهورها، فلا يمكن ادّعاء دعوى كلّيّة باعتبارها ولا بإلغائها، ومن تتبّع فروعها الفقهيّة ظهر له هذا، ويفهم من كلام المالكيّة أنّها من حيث هي غير كافية في الاعتبار‏.‏ إذ لو كانت كذلك لاعتبرت مطلقاً وليس كذلك‏.‏ بل لا بدّ من فضل خاصّ يقتضي اعتبارها أو إلغاءها‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الشّرع مبنيّ على الحكم بالظّاهر، كما قد أطلع اللّه رسوله على قوم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولم يجعل له أن يحكم عليهم في الدّنيا بخلاف ما أظهروا‏.‏

وحكم في المتلاعنين بدرء الحدّ مع وجود علامة الزّنى، وهو أنّ المرأة أتت بالولد على الوصف المكروه‏.‏

قال الشّافعيّ‏:‏ وهذا يبطل حكم الدّلالة الّتي هي أقوى من الذّرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدّلائل أبطل الأضعف من الذّرائع كلّها‏.‏

4 - وقد قسّم القرافيّ‏:‏ الذّرائع إلى الفساد ثلاثة أقسام‏:‏

قسم أجمعت الأمة على سدّه ومنعه وحسمه، كحفر الآبار في طرق المسلمين، فإنّه وسيلة إلى إهلاكهم فيها، وكذلك إلقاء السّمّ في أطعمتهم، وسبّ الأصنام عند من كان من أهلها، ويعلم من حاله أنّه يسبّ اللّه تعالى عند سبّها‏.‏

وقسم أجمعت الأمّة على عدم منعه، وأنّه ذريعة لا تسدّ، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية أن تعصر منه الخمر فإنّه لم يقل به أحد، وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزّنى‏.‏

وقسم اختلف فيه العلماء هل يسدّ أم لا، كبيوع الآجال عند المالكيّة، كمن باع سلعةً إلى شهر بعشرة دراهم، ثمّ اشتراها نقداً بخمسة قبل آخر الشّهر‏.‏

فمالك يقول‏:‏ إنّه أخرج من يده خمسةً الآن وأخذ عشرةً آخر الشّهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسّلاً بإظهار صورة البيع لذلك‏.‏

والشّافعيّ يقول‏:‏ ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك، قال القرافيّ‏:‏ وهذه البيوع تصل إلى ألف مسألة اختصّ بها مالك وخالفه فيها الشّافعيّ‏.‏

5- أمّا القسم الأوّل الّذي أجمعت الأمّة عليه، فهو ما كان أداؤه إلى المفسدة قطعيّاً، فلا خلاف في أنّه يسدّ، ولكنّ التّقيّ السّبكيّ من الشّافعيّة قال‏:‏ ليس هذا من باب سدّ الذّرائع، بل هو من تحريم الوسائل، والوسائل تستلزم المتوسّل إليه، ولا نزاع في هذا، كمن حبس شخصاً ومنعه الطّعام والشّراب فهذا قاتل له، وليس هذا من سدّ الذّرائع في شيء‏.‏ والنّزاع بيننا وبين المالكيّة ليس في الذّرائع وإنّما هو في سدّها‏.‏

وقال التّاج بن السّبكيّ‏:‏ ولم يصب من زعم أنّ قاعدة سدّ الذّرائع يقول بها كلّ أحد، فإنّ الشّافعيّ لا يقول بشيء منها‏.‏

وقد صرّح الشّافعيّ بمذهبه في ذلك فقال‏:‏ لا يفسد عقد أبداً إلاّ بالعقد نفسه، ولا يفسد بشيء تقدّمه ولا تأخّره، ولا بتوهّم‏.‏ ولا تفسد العقود بأن يقال‏:‏ هذه ذريعة، وهذه نيّة سوء، ألا ترى لو أنّ رجلاً اشترى سيفاً، ونوى بشرائه أن يقتل به، كان الشّراء حلالاً، وكانت نيّة القتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع‏.‏ قال‏:‏ وكذلك لو باع البائع سيفاً من رجل لا يراه أنّه يقتل به رجلاً كان هكذا‏.‏

6- وأمّا القسم الّذي أجمعت الأمّة على أنّه لا يسدّ فهو ما كان أداؤه إلى المفسدة قليلاً أو نادراً‏.‏ وقد بيّن ابن القيّم أنّ الذّريعة إلى الفساد تسدّ سواء قصد الفاعل التّوصّل بها إلى الفساد أو لم يقصد ذلك‏.‏

7- وأمّا القسم الّذي اختلف فيه فهو ما كان أداؤه إلى المفسدة كثيراً لكنّه ليس غالباً، فهذا موضع الخلاف‏.‏

والخلاف من ذلك جار في غير ما ورد في الكتاب والسّنّة سدّه من الذّرائع، أمّا ما جاء النّصّ بسدّه منها في النّصوص الشّرعيّة الثّابتة فلا خلاف في الأخذ بذلك، كالنّهي عن سبّ آلهة المشركين لئلاّ يسبّوا اللّه تعالى، وكالنّهي عن الصّلاة عند طلوع الشّمس وغروبها‏.‏ وإنّما الخلاف في جواز حكم المجتهد بتحريم الوسيلة المباحة إن كانت تفضي إلى المفسدة لا على سبيل القطع أو الغلبة‏.‏

وفيما يلي فروع تنبني على هذا الأصل‏.‏

8- أ - بيوع الآجال‏:‏ وهي بيوع ظاهرها الجواز، لكن منع منها مالك ما كثر قصد النّاس له توصّلاً للرّبا الممنوع فيمنع ولو لم يقصده العاقد سدّاً للذّريعة، فإن قلّ قصد النّاس له لم يمنع‏.‏ فممّا يمنع منها البيع الّذي يؤدّي إلى سلف بمنفعة، كما لو باع سلعةً بعشرة إلى سنة ثمّ يشتريها بخمسة نقداً، فآل أمره لدفع خمسة نقداً يأخذ عنها بعد الأجل عشرةً‏.‏

9 - ب - ومنها مسألة تأجيل الصّداق‏:‏ فيكره عند المالكيّة تأجيل الصّداق ولو إلى أجل معلوم كسنة مثلاً إن كان المؤجّل الصّداق كلّه، لئلاّ يتذرّع النّاس إلى النّكاح بغير صداق ويظهروا أنّ هناك صداقاً مؤجّلاً‏.‏

10 - ج - إذا اشترى ثمراً على رءوس الشّجر قبل بدوّ صلاحه جاز إن شرطا القطع في الحال، فإن شرطا ذلك ثمّ ترك على الشّجر حتّى بدا صلاحه، فإن كان قاصداً لتركه حال العقد فالبيع باطل من أصله عند أحمد، أمّا إن تركه ولم يكن قاصداً لذلك حين العقد فعن أحمد روايتان‏:‏ أصحّهما‏:‏ يبطل أيضاً، لأنّ تصحيح البيع في هذه الصّورة يكون ذريعةً إلى شراء الثّمرة قبل بدوّ صلاحها ثمّ تترك إلى أن يبدو صلاحها، فيكون ذريعةً إلى الحرام، فيكون حراماً‏.‏ ولا يبطل البيع بذلك عند أكثر الفقهاء، وهو الرّواية الأخرى عن أحمد‏.‏

11 - د - صيام يوم الشّكّ والسّتّ من شوّال‏:‏

جاء في فتح القدير نقلاً عن تحفة الفقهاء‏:‏ يكره الصّوم قبل رمضان بيوم أو يومين لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقدّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلاّ أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم» قال‏:‏ وإنّما كره ذلك لئلاّ يظنّ أنّه زيادة على صوم رمضان إذا اعتادوا ذلك، وعن هذا قال أبو يوسف‏:‏ يكره وصل رمضان بستّ من شوّال‏.‏

قال‏:‏ ولا يكره صوم يوم الشّكّ تطوّعاً إن كان على وجه لا يعلم به العوّام لئلاّ يعتادوا صومه فيظنّه الجهّال زيادةً في رمضان‏.‏ وهو مذهب المالكيّة في صيام السّتّ من شوّال‏.‏

قال ابن رشد في المقدّمات‏:‏ كره مالك أن يلحق برمضان صيام ستّ من شوّال مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء، وأمّا الرّجل في خاصّة نفسه فلا يكره له صيامها‏.‏

وقال في الذّخيرة‏:‏ وفي صحيح مسلم «من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال» الحديث‏.‏ قال‏:‏ واستحبّ مالك صيامها في غيره خوفاً من إلحاقها برمضان عند الجهّال‏.‏

وإنّما عيّنه الشّرع من شوّال للخفّة على المكلّف بقربه من الصّوم، وإلاّ فالمقصود حاصل من غيره فيشرع التّأخير جمعاً بين المصلحتين‏.‏ ا هـ‏.‏

وإتباع صوم السّتّ من شوّال مستحبّ عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

12 - هـ - قضاء القاضي بعلمه‏:‏

اختلف الفقهاء في صحّة قضاء القاضي بعلمه فذهب مالك إلى منع ذلك في الحدود وغيرها سواء علمه قبل ولايته أو بعدها، وهو أيضاً رواية عن أحمد‏.‏ وممّا احتجّ به لهذا القول أنّ تجويز ذلك يفضي إلى تهمة القاضي، والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه‏.‏

وهو أيضاً مذهب أبي حنيفة والشّافعيّ في الحدود الّتي للّه تعالى لأنّها مبنيّة على السّتر، ومذهب أبي حنيفة أيضاً في حقوق الآدميّين الّتي علمها قبل ولايته، لا فيما علمه منها بعد ولايته‏.‏

والقول الآخر للشّافعيّ واختاره المزنيّ، وهو الرّواية الأخرى عن أحمد‏:‏ يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه‏.‏

فتح الذّرائع

13 - المراد بفتح الذّرائع تيسير السّبل إلى مصالح البشر قال القرافيّ المالكيّ‏:‏ اعلم أنّ الذّريعة كما يجب سدّها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإنّ الذّريعة هي الوسيلة، فكما أنّ وسيلة المحرّم محرّمة فوسيلة الواجب واجبة كالسّعي إلى الجمعة والحجّ‏.‏ والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل،وإلى ما يتوسّط متوسّطة‏.‏ وممّا يدلّ على حسن الوسائل الحسنة قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ‏}‏ فأثابهم اللّه على الظّمأ والنّصب وإن لم يكونا من فعلهم لأنّهما حصلا لهم بسبب التّوسّل إلى الجهاد الّذي هو وسيلة لإعزاز الدّين وصون المسلمين‏.‏

ثمّ ذكر القرافيّ أمثلةً من ذلك، منها التّوسّل إلى فداء أسارى المسلمين، بدفع المال للكفّار الّذي هو محرّم عليهم الانتفاع به بناءً على أنّهم مخاطبون بفروع الشّريعة عند المالكيّة‏.‏ ومنها دفع مال لرجل يأكله حراماً حتّى لا يزني بامرأة إذا عجز عن دفعه عنها إلاّ بذلك، وكدفع المال للمحارب حتّى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك، ولكنّه اشترط في المال أن يكون يسيراً‏.‏ قال‏:‏ فهذه الصّور كلّها الدّفع فيها وسيلة إلى المعصية بأكل المال ومع ذلك فهو مأمور به، لرجحان ما يحصل من المصلحة مع هذه المفسدة‏.‏

سدّ الرّمق

التّعريف

1 - المصطلح مركّب من كلمتين‏:‏ الأولى‏:‏ سدّ، وهو إغلاق الخلل وردم الثّلم، ومعنى سدّده أصلحه‏.‏ يقال‏:‏ سداد من عوز وسداد من عيش لما تسدّ به الحاجة ويرمق به العيش‏.‏ والثّانية‏:‏ الرّمق، وهي تطلق على بقيّة الرّوح وعلى القوّة‏.‏

وسدّ الرّمق معناه‏:‏ الحفاظ على القوّة والإبقاء على الرّوح‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - أجمع العلماء على أنّه يجوز للمضطرّ - وهو من خاف على نفسه من عدم الأكل موتاً، أو مرضاً مخوفاً، أو زيادته، أو طول مدّته، أو خاف الانقطاع عن رفقته، أو ضعف عن مشي، أو ركوب، ولم يجد حلالاً يأكله - أن يأكل من لحم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما في معناها من المحرّمات، كما يجوز له أن يأكل طعام الغير دون إذنه‏.‏

والأصل في هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

وأجمع العلماء على أنّه يباح للمضطرّ أن يأكل من الميتة ولحم الخنزير وغيرهما من المحرّمات الأخرى الّتي ذكرتها الآيات المذكورة ما يسدّ به رمقه ويأمن معه الموت بجوع أو عطش، كما أجمعوا على أنّه يحرم عليه أكل ما زاد على الشّبع لأنّه توسّع فيما لم يبح إلاّ للضّرورة‏.‏

واختلفوا في حكم الشّبع من المحرّمات، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة في إحدى الرّوايتين، والشّافعيّة في الأصحّ عندهم، والحنابلة في الأظهر عندهم، والحسن إلى أنّه لا يجوز للمضطرّ الشّبع، بل يكتفي بما يسدّ الرّمق بحيث يصير إلى حالة لو كان عليها في الابتداء لما جاز له أكل الميتة ونحوها، لأنّ الضّرورة تزول بهذا القدر، والتّمادي في أكل الحرام من غير ضرورة ممتنع‏.‏

قال الحسن‏:‏ يأكل قدر ما يقيمه، لأنّ الآية دلّت على تحريم الميتة ونحوها واستثني ما اضطرّ إليه، فإذا اندفعت الضّرورة لم يحلّ له الأكل، لأنّه بعد سدّ الرّمق أصبح كما كان قبل أن يضطرّ فلم يبح له الأكل، ولأنّ الضّرورة تقدّر بقدرها‏.‏

وذهب المالكيّة في رواية وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى جواز الشّبع له من لحم الميتة ونحوها، لأنّ الآيات الّتي أباحت ذلك أطلقت ولم تقيّده بسدّ الرّمق، ولأنّ له تناول قليله فجاز له الشّبع منه‏.‏

وفرّق بعض العلماء بين ما إذا كانت الضّرورة مستمرّةً كأن يكون بعيداً عن العمران وخاف إن ترك الشّبع أن يهلك فيجوز لهذا وأمثاله الشّبع، لأنّه إذا اقتصر على سدّ الرّمق عادت الضّرورة إليه عن قرب‏.‏

وبين ما إذا كانت الضّرورة مرجوّة الزّوال، كأن يكون في بلد ويتوقّع الحصول على طعام حلال قبل عود الضّرورة، فيجب على من هذا حاله الاقتصار على سدّ الرّمق، ولا يجوز له الشّبع‏.‏

وهناك مسائل منها‏:‏ هل يجوز له التّزوّد من لحم الميتة ولحم الخنزير وأمثالهما ‏؟‏

وهل يجوز له أكل أو شرب المسكرات ‏؟‏ وهل يجوز له أكل لحم آدميّ ‏؟‏

وإذا وجد طائفةً من المحرّمات كلحم الميتة والدّم ولحم الخنزير ومال الغير ونحو ذلك فهل يتخيّر بينها أم يجب عليه التّرتيب ‏؟‏ وإذا وجب التّرتيب فماذا يقدّم ‏؟‏

وهل هذه الرّخصة خاصّة بالمسافر أو المقيم المضطرّ أيضاً ‏؟‏

وهل يجوز للعاصي المضطرّ أكل ما ذكر ‏؟‏

وما حكم أكل المضطرّ هل يجب عليه أم يباح له ‏؟‏ تفاصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏ضرورة‏)‏‏.‏

سرار

انظر‏:‏ إسرار‏.‏

سراية

التّعريف

1 - السّراية في اللّغة‏:‏ اسم للسّير في اللّيل، يقال‏:‏ سريت باللّيل، وسريت اللّيل سريّاً إذا قطعته بالسّير، والاسم سراية‏.‏ وقد تستعمل في المعاني تشبيهاً لها بالأجسام، فيقال‏:‏ سرى فيه السّمّ والخمر، ويقال في الإنسان‏:‏ سرى فيه عرق السّوء‏.‏

ومن هذا القبيل قول الفقهاء‏:‏ سرى الجرح من العضو إلى النّفس، أي دام ألمه حتّى حدث منه الموت، وقولهم‏:‏ قطع كفّه فسرى إلى ساعده، أي تعدّى أثر الجرح إليه، كما يقال‏:‏ سرى التّحريم من الأصل إلى فروعه، وسرى العتق‏.‏

وفي الاصطلاح الفقهيّ السّراية هي‏:‏ النّفوذ في المضاف إليه ثمّ التّعدّي إلى باقيه‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - يستعمل الفقهاء كلمة ‏"‏ سراية ‏"‏ في الموضوعات الآتية‏:‏

أ - العتق‏.‏

ب - الجراحات‏.‏

ج - الطّلاق‏.‏

السّراية في العتق

3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من أعتق نصيباً له في عبد مشترك بينه وبين غيره فإنّه يعتق نصيبه من العبد ويسري العتق إلى الباقي إذا كان المعتق موسراً‏.‏

وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏رقّ ف / 139‏)‏‏.‏

سراية الجناية

4 - سراية الجناية مضمونة بلا خلاف بين الفقهاء لأنّها أثر الجناية، والجناية مضمونة، وكذلك أثرها، ثمّ إن سرت إلى النّفس كأن يجرح شخصاً عمداً فصار ذا فراش ‏"‏ أي ملازماً لفراش المرض ‏"‏ حتّى يحدث الموت، أو سرت إلى ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف، كأن يجني على عضو عمداً فيذهب أحد المعاني‏:‏ كالبصر، والسّمع ونحوهما، وجب القصاص بلا خلاف‏.‏

وإن سرت إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف بأن يقطع أصبعاً فسرت إلى الكفّ حتّى يسقط فقد اختلف الفقهاء في وجوب القصاص فيه‏.‏

فقال الشّافعيّة والصّاحبان وزفر والحسن بن زياد‏:‏ يجب القصاص في الأصبع، ودية مغلّظة في الكفّ، وقالوا‏:‏ إنّ ما يمكن مباشرته بالجناية لا يجب فيه القود بالسّراية‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يجب فيه القصاص، وقالوا‏:‏ إنّ ما وجب فيه القود بالجناية وجب فيه أيضاً بالسّراية كالنّفس وضوء العين‏.‏

وقال أبو حنيفة فيمن قطع أصبعاً فشلّت إلى جنبها أخرى‏:‏ لا قصاص في شيء من ذلك، عليه ديتهما‏.‏ وإن كانت الجراحة خطأً فسرت إلى شيء ممّا ذكر فلا يجب غير الدّية، والتّفصيل في ‏(‏قصاص‏)‏‏.‏

سراية القود

5 - سراية القود غير مضمونة عند جمهور الفقهاء، فإذا قطع طرفاً يجب القود فيه فاستوفى منه المجنيّ عليه ثمّ مات الجاني بسراية الاستيفاء لم يلزم المستوفي شيء، وإلى هذا ذهب الشّافعيّة وأحمد وأبو يوسف ومحمّد، وروي عن أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم، وقالوا‏:‏ لأنّه قطع مستحقّ مقدّر فلا تضمن سرايته كقطع السّارق، ولا يمكن التّقييد بسلامة العاقبة لما فيه سدّ باب استيفاء الحقّ بالقصاص، والاحتراز عن السّراية ليس في وسعه‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يضمن دية النّفس، لأنّه قتل بغير حقّ لأنّ حقّه في القطع وهو وقع قتلاً، ولو وقع هذا القطع ظلماً في غير قصاص وسرى إلى النّفس، كان قتلاً موجباً للقصاص، أو الدّية، ولأنّه جرح أفضى إلى فوات الحياة في مجرى العادة، وهو مسمّى القتل إلاّ أنّ القصاص سقط للشّبهة فوجب المال‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏قصاص‏)‏‏.‏

والعبرة في الضّمان، ونوعه وقدره بوقت الجناية لا بوقت السّراية، فإن جرح مسلم حربيّاً أو مرتدّاً فأسلما ثمّ ماتا بالسّراية فلا ضمان، كعكسه، بأن جرح حربيّ مسلماً فأسلم الحربيّ ثمّ مات المسلم، لأنّه جرح غير مضمون فسرايته غير مضمونة‏.‏

وإن جرح مسلم مسلماً ثمّ ارتدّ المجروح فمات بالسّراية فلوليّه القصاص بالجرح،لا بالنّفس‏.‏ وإن تخلّل المهدر بين الجرح والموت بالسّراية كأن يجرح مسلم مسلماً، ثمّ ارتدّ المجروح، ثمّ أسلم ومات بالسّراية فلا يجب القصاص لتخلّل حالة الإهدار بين الجناية، والموت بالسّراية وتجب الدّية لوقوع الجناية، والموت بالسّراية في حالة العصمة‏.‏

وإن جرح مسلم ذمّيّاً فأسلم ومات بالسّراية فلا قصاص عند من يرى عدم قتل المسلم بالذّمّيّ، لأنّه لم يقصد بجنايته من يكافئه، وتجب دية مسلم، لأنّه في الابتداء مضمون وفي الانتهاء حرّ مسلم‏.‏ والقاعدة في هذا الباب هي‏:‏

أ - أنّ كلّ جرح غير مضمون لا ينقلب مضموناً بتغيّر الحال في الانتهاء‏.‏

ب - وكلّ جرح مضمون في الحالين فالعبرة في قدر الضّمان بالانتهاء‏.‏

ج - وكلّ جرح مضمون لا ينقلب غير مضمون بتغيّر الحال‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏قصاص‏)‏‏.‏

سراية الطّلاق

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا أضاف الطّلاق إلى جزء شائع من المرأة، كأن يقول‏:‏ نصفك، أو ربعك، أو جزؤك طالق، أو أضافه إلى معيّن منها كأن يقول‏:‏ يدك أو رجلك طالق، وقع الطّلاق بطريق السّراية من المضاف إليه إلى الباقي كما يسري في العتق، لأنّه أضاف الطّلاق إلى جزء ثابت استباحه بعقد النّكاح فأشبه الجزء الشّائع‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن أضاف الطّلاق إلى ما لا يعبّر به عن الجملة كاليد، والرّجل ونحوه لم يقع الطّلاق، وبالتّالي لا سراية لأنّه أضاف الطّلاق إلى غير محلّه فيلغو‏.‏